في أحدى المظاهرات الحاشدة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فوجئ المشاركون بوجود شابة غير محجبة في مقدمة المظاهرة تهتف بشعارات تلك الفترة: يسقط الاستعمار، تسقط الرجعية. كان خروج تلك الفتاة في قيادة مظاهرة سيواجهها الجنود البريطانيون والشرطة المحلية بالهراوات والرصاص أمراً جديداً استهجنه كثيرون ورحب به آخرون. منذ ذلك اليوم، حدث الكثير مما تُفاخر به المرأة البحرينية، وخاصة خلال انتفاضة التسعينيات.
ساهمت أجواء الانفراج الأمني في السنوات الأولى بعد تولي الشيخ حمد بن عيسى الحكم في العام 1999 ببروز مجالات جديدة، وأطر تنظيمية مفتوحة ساعدت على انخراط نساء في مختلف جوانب المجال العام. فبرزت أسماء بعضهن في واجهة منظمات المجتمع المدني، بما فيها النقابات وجمعيات حقوق الإنسان، علاوة على جمعيات معنية بالحماية من العنف المنزلي والعنف ضد الأطفال. ورأينا أسماء نسائية في واجهة أنشطة قوى المعارضة السياسية نفسها. إلا إن كل هذا لم ينعكس في نتائج الانتخابات البرلمانية في 2002 التي قاطعتها جميع قوى المعارضة. ولولا تدخل رئيس الوزراء وزوجة الملك شخصياً وفي وجه معارضة من الجمعيات السنيّة (السلف والإخوان) لما أتيح للنائبة الوحيدة في برلمان 2002 أن تفوز بالتزكية.
شاركن في الحراك ولكن خارج البرلمان
شاركت التنظيمات المعارضة في الانتخابات التالية على تلك، في أعوام 2006 و2010 . إلا إن النجاح لم يحالف أياً من المترشحات. من السهل تفسير “الفشل النسائي” في انتخابات 2002 و2006 و2010 ، بالإشارة إلى هيمنة الذكورية التقليدية على الناخب البحريني والتصورات المتعلقة بقوامة الرجل. إلا إن مثل هذا التفسير لا يكفي، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار مدى إيجابية الشارع البحريني تجاه الحراك النسائي في مختلف المجالات الأخرى. ولهذا نحتاج للنظر إلى دور كل من السلطة ورجال الدين في منع المرأة من تخطي الحدود التقليدية المرسومة لدورها.
تتباعد مواقف السلطة عن مواقف رجال الدين، السنة والشيعة، في أمور كثيرة يتسبب بعضها في توتير العلاقة بينهما بين فترة وأخرى. إلا إنهما يتفقان في توجسهما من أن ينفتح الباب على مصراعيه لتمكين المرأة من ممارسة أدوارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية عل قدم المساواة مع الرجل في مجتمع ديمقراطي. ويتضح هذا التوجس المشترك من خلال متابعة موقف الطرفين من محاولات المرأة البحرينية دخول البرلمان. فمن جهة امتنعت التنظيمات الدينية، السنية والشيعية على السواء، عن ترشيح النساء. بل وشاركت تنظيمات السلف والإخوان المسلمين في دعم الجهود التي قامت بها السلطة لإفشال المترشحات التقدميات لبرلمانيْ 2006 و2010. فحين تمكنت الدكتورة منيرة فخرو مثلاً من الوصول إلى الجولة الثانية في الانتخابات الأخيرة، في مواجهة قوية مع المترشحين الدينيين، حركت السلطة الناخبين العسكريين لضمان نجاح منافسها.
المفارقة أن جمعية الوفاق الإسلامية الشيعية التي دعمت بقوة حملة الدكتورة فخرو رفضت إدراج أية امرأة في قائمتها الانتخابية التي فازت بكاملها في انتخابات 2006 و 2010. ورغم غرابة هذا الموقف من جمعية تشكل المرأة عنصراً رئيساً فيها، إلا أنه موقف ينسجم تماماً مع النهج المحافظ لدى المرجع الديني لجمعية الوفاق، الشيخ عيسى قاسم. فالرجل قاد عندما كان نائباً في برلمان 1973 حملة لسن قوانين للفصل بين الجنسين في التعليم وفي الخدمات الصحية.
حفيدات شهلا خلفان
حين هبت رياح الانتفاضة في دوار اللؤلؤة في البحرين، تسارعت في البروز علامات التغييرات الاجتماعية والثقافية المتراكمة منذ انتفاضة التسعينيات، ولكنها بقيت مخفية تحت أغطية المواجهة السياسية بين السلطة وأنصارها والمعارضة وأنصارها. إلا أن تفاصيل المواجهات طوال أكثر من سنة ونصف على دخول القوات السعودية لقمع المعتصمين في دوار اللؤلؤة أوضحت ملامح تغيير حقيقي، فرض على الأطراف المؤثرة في المعارضة والسلطة الاعتراف بالدور المركزي الذي تلعبه النساء فعلاً في الحراك السياسي. تحمَّل شبابٌ من الجنسيْن جهود التحضير للربيع العربي في البحرين بعيداً عن أعين السلطة، وعن أعين تنظيمات المعارضة المعترف بها، ورغماً عنهما. وحين تمكن المحتجون من اتخاذ دوار اللؤلؤة مركزاً للاعتصام ولانطلاق المتظاهرين، المنطلقين منه وإليه في مسيرات الاحتجاج، لم يعد ممكناً إبقاء الدور النسائي محصوراً في مهمات “شحذ الهمم”، أو في أحسن الأحوال “تقديم الإسعاف والمساندة”. فرأينا ناشطات من جيل ما قبل الاستقلال يستعدن أحلاماً أعادتها للحياة ناشطات في عمر حفيداتهن المحجبات أو السافرات في قيادة الحراك المعلن وغير المعلن.
بعد دخول القوات السعودية في 15 آذار/ مارس 2011، لم يفرق قمع السلطة بين الرجال والنساء. فحين اعتقلت السلطات آلاف النشطاء، كان من بينهم مئات النساء. ربات بيوت ومعلمات وصحفيات وطبيبات وممرضات ومهندسات وطالبات وعاطلات عن العمل. وفُصل مئات من وظائفهن، أو أُحلن إلى اللجان التأديبية التي عاقبتهن بخصم رواتبهن وتخفيض مستوياتهن الوظيفية. وتعرضت المعتقلات لمختلف أنواع التعذيب التي يتعرض لها الرجال، بما في ذلك التحرش والاغتصاب الجنسي. فحين يطالع الناس ما ترويه المعتقلات والمعتقلين يعرفون كيف ساوت السلطة بين الجنسين في قمعها.
محاولات اللجم
شكلت مشاركة الناشطات البحرينيات في التحضير لـ”انتفاضة 14 فبراير”، وقيادة تفاصيلها اليومية، تحدياً غير مسبوق لموروث يعتبر المرأة سنداً للرجل الفاعل، سواء في جانب السلطة السياسية أو في مواجهتها. وهو تحدٍ استمر بعد دخول القوات السعودية إلى البحرين وإعلان حالة الطوارئ. فعلاوة على دورها البارز في المجالات الإعلامية والحقوقية، بما فيها فرق المحامين التي تشكلت للدفاع عن المعتقلين والمعتقلات، فإن النساء يشكلن غالبية المشاركين في كثير من المسيرات الاحتجاجية في مناطق مختلفة، بما فيها العاصمة المنامة.
في إطار محاولة تطويق هذا التحدي، يمكن الإشارة إلى ازدياد حالات التحرش بالنساء على الحواجز الأمنية، الثابتة منها والطيَّارة، علاوة على كثرة حالات استدعاء الناشطات للتحقيق أو إعادة التحقيق. ويرتبط بهذا انتشار الإشاعات حول ما يسمى بـ “المجندات”، أي النساء اللواتي تجندهن قوى الأمن للتجسس على النشطاء أو الإيقاع بهم في فضائح أخلاقية. كان واضحاً إن السلطة تهدف من كل ذلك إلى دفع العائلات الى منع بناتها من المشاركة في الأعمال الاحتجاجية خوفاً عليهن من التحرش الجنسي أو تحاشياً لاتهامهن بأنهن “مجندات”.
تزامن انتشار تلك الإشاعات مع تصريحات لقادة في المعارضة تطالب النساء بالابتعاد عن “المواجهات المباشرة مع قوات الأمن” خشية على كرامتهن وعفافهن. وعلى الرغم مما أثارته تلك التصريحات من احتجاج بين الناشطات البحرينيات، إلا أن الأمين العام لجمعية الوفاق وجد من الضروري تكرارها في مقابلة منشورة مؤخراً، مشيراً إلى المجالات الإسنادية الني يعتبرها تتناسب مع طبيعتها “دون أن تكون فيها عرضة للاعتقال، مع ضرورة التمسك والتقيد بالسلمية وعدم المواجهة”.
بطبيعة الحال لا يوجد رابط مباشر بين ما تتعرض له الناشطات البحرينيات على أيدي السلطة من تحرشات، وما يلحق بهن من إشاعات تهدف لتلويث سمعتهن، وبين جهود المحافظين في صفوف المعارضة لإبعاد النساء عن ساحات المواجهة بحجة حماية عفافهن. إلا أن النتيجة ستكون واحدة، أي احتواء ما حققته المرأة في ظل ربيع عربي لم يكتمل بعد في البحرين. لم تنجح السلطة في تخويف الناشطات عبر استهدافهن على الحواجز الأمنية وفي المعتقلات، وعبر نشر الإشاعات المسيئة. ولكن مواجهة مطالبة رجال الدين للنساء بـ “الابتعاد عن ساحة المواجهات” سيتطلب أكثر من احتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ما يبشر بالخير أن خبرات الحراك النسوي منذ خروج شهلا خلفان قبل ست وخمسين سنة في مظاهرة تهتف بسقوط الاستعمار والرجعية قد جعلت المرأة البحرينية طرفاً فاعلاً في الصراع الدائر من أجل التغيير، وليس مجرد ساحة للصراع والتوافق بين السلطة ومعارضيها.
د. عبدالهادي خلف استاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند بالسويد
نشر هذا المقال في 10\10\2012 في جريدة السفير العربي
الأراء المطروحة في هذا المقال تمثل أراء الكاتب ولا تعبر عن أراء منظمي نقاش البحرين